Skip to main content

يوتوبيا الظلام!



 إبراهيم فرغلي في روايته معبد أنامل الحرير
 يوتوبيا الظلام!
أشرف أبو اليزيد



في رحلة البحث عن صديقه، يعثر قاسم على مخطوط رواية تركها رشيد الجوهري قبل اختفائه، ليبدأ بقراءتها وسط رحلة صاخبة بدأت على ظهر قارب برحلة هجرة غير شرعية في عرض البحر المتوسط.

هكذا تضعنا رواية الكاتب إبراهيم فرغلي "معبد أنامل الحرير" بداية أمام نصين متوازيين؛ نص ستحكيه الرواية نفسها باعتبارها الرَّواية الشاهد، ونص المخطوط الروائي الذي تتبادل قراءته مع قاسم.

ولكن نصا ثالثا ـ يتابعه القارئ ـ يبدو كنسغ في جسد النص الأدبي، يمثل تطور وعي الرواية، باعتبارها جنسا أدبيا، حدد تاريخ ميلاده المؤلف بنص الشريف العبقري دون كيخوت دي لا مانشا "الشهير بين العرب باسم دون كيشوت"، لثربانتس.

هذه النصوص الثلاثة تقدم لنا بالمقابل ثلاثة عوالم؛ الأول نتابع أحداثه المتلاحقة الراصدة للآني، وتبدو فيه المغامرات المثيرة حيلة لرصد رحلة المخطوط الروائي، من يد ليد.

والثاني عالم خفي، تقدمه الرواية عن تجربة رشيد الجوهري، بطلاه "كيان" و"سديم" اللذان يعيشان في مدينة تحت الأرض تبدو مثل يوتوبيا الظلام التي يسكنها الهاربون من عالم فوق الأرض أكثر ظلمة وظلما.

أما النص الثالث فهو مستشف من رحلة القراءة التي تتابع نصوصا موازية من الأدب السردي والشعري العربي والعالمي.

قد يظهر هذا النص الروائي ـ للوهلة الأولى ـ معقدا، بسبب تلك التوليفة، لكن فك شفرة تركيب فصوله تقودنا إلى قراءة ميسرة له، خاصة وأن المؤلف تعمد تقديم نص يعتمد على القراءة أكثر مما يركن إلى الاستدعاء السهل للنماذج السردية النمطية.

الرواية / المخطوط باعتبارها كائنا شاهدًا، ينمو وعيه وإدراكه بتشكله ونضجه، ربما بعيدا عن المؤلف نفسه، ستنقل لنا سيرة كاتبها رشيد الجوهري، التي تتماس مع سيرة المؤلف إبراهيم فرغلي نفسه. فلا ننسى أن فرغلي أمضى قسما من حياته مع أسرته صبيا وشابا في دولة خليجية عربية، وأنه سافر ليعيش فترة في مدينة ألمانية، وأنه ـ كذلك ـ يسمي  مدونته على الإنترنت بالمخطوط، في تماس مع المخطوط / الراوية. وحين نتعمق في القراءة سندرك إنه لا يقدم تماسا وحسب مع شخصيته الحقيقية، بل ويستعرض اهتماماته القرائية، وهواياته الفنية، حتى أنه يستدعي نفسه أيضا.

ففي يوتوبيا الظلام التي هرب إليها الشعراء والفنانون والمفكرون، وما يمكن أن نعتبرهم النخبة التي تشكل مدينة فاضلة دعا إليها الفارابي، على خطى أفلاطون، نجد الحياة تحت الأرض مثل جسم كامل تام تتعاون أعضاؤه لتحقيق الحياة والمحافظة عليها، الكل يبحث عن الحرية، التي نقرأها على أكثر من هيئة، سواء كانت حرية الشعراء في إلقاء القصائد الحسية، وبعضها يمكن أن نقرأه ـ مثالا ـ في أحد نصوص شاكر لعيبي؛ بعنوان "الجسد المغتبط"،  وصولا إلى حرية "نقار الزجاج"، وهو شخصية ابتكرها المؤلف لمن لم يعد يستطيع مواصلة الحياة دون أن يرتطم بالأبواب الزجاجية!

وللمصادفة تبدو شخصية الفارابي مثالية للحديث عن شخص ولد في مقاطعة فاراب (تركستان حاليا)، لأب (محمد بن طرخان) من قادة العسكر السامانيين، وقد درس في بغداد على يد معلمه المسيحي يوحنا بن حيلان ، قبل أن يحل مدينة حلب ليدرس الموسيقى ويتفقه في الرياضيات ويبحر بالفلسفة ويغرم بالعلوم ويشغل بالسفر. وما أقرب سيرة الفارابي ونصه بهذا الثلاثي المخطوط / الرواية/ الراوي.

في هذه المدينة السفلية، التي سما بها أهلها وحولتها أفكارهم إلى جمرة من نور، سنقرأ:

"استدعيت اللحظة التي بدأت فيها شرارة الأحداث. بدأ ذلك عقب قراءتي لنص بعنوان "أبناء الجبلاوي" لكاتب اسمه إبراهيم فرغلي، لم أكن سمعت عنه، تخيل في روايته تلك اختفاء كتب نجيب محفوظ من الوجود فجأة، بلا سبب معروف. وربط بين هذا الاختفاء الغامض وبين وقوع المدينة القاهرة في ظلام مريب نتيجة مرور أسراب من طيور لا يعرف أحد جنسا، ظلت تحلق أعلى المدينة حتى منعت عنها ضوء النهار، وتسببت في إظلام المدينة بشكل تام".

يريدنا إبراهيم فرغلي بهذا الاقتباس، أن ينسينا مؤلف الرواية، ليُرجّح نظرتنا إلى النص باعتباره حكاية رواية تتحدث عن نفسها. ولكن ـ وهو الأهم ـ تتحدث عن روايات العالم كله، ليس فقط في الاقتباسات التي شملت تدوين صفحات من "دون كيشوت"، ثربانتس، و"عشيق الليدي تشاترلي" ، د. هـ. لورانس، و"الأشجار واغتيال مرزوق"، عبد الرحمن منيف، و"الخبز الحافي" ، محمد شكري، ولكن كذلك في تقديم "آراء نقدية" عن رواية أكثر مثل "روبنسون كروزو، دانييل ديفوي، و"الجريمة والهقاب، ديستوفسكي، وغيرهما مما أتاحت مهنة النساخين لصاحبها من إعادة قراءة تلك النصوص وسواها.

بالنسبة لي، تبدو رواية إبراهيم فرغلي "معبد أنامل الحرير" نصا مكتوبا في غرف الغواصات، تلك الغرف "الآمنة" الواقعة في مساحة انتقالية، بين مياه بحر هائج قد يقطف الحياة، وفضاء نظام صارم ربما يئد الحياة، وهنا أنت بين اختيارين، أحلاهما مر، فإما تختار يوتوبيا الظلام التي تضع لها نظاما على هواك، وإن بدا فوضويا، لا يربطك فيه بالحياة الحقيقية سوى حبل سري قد ينقطع يومًا ما، وإما ترضخ لنظام النهار بكل سوءاته:

"فكرتُ جديا أن الحل الوحيد يتمثل في الهروب من الأنفاق والعودة إلى مدينة الظلام، من أجل التمتع بالإضاءة الطبيعية، واستنشاق هواء طبيعي. عندما قلتُ ذلك لسديم، ابتسمت كمن يكبح ضحكة. نظرت إليها مندهشا، متصورا أنها تسخر من فكرة أنني أريد الهرب من الاكتئاب لألقي بنفسي في يد جماعات الزومبي التي تعيش في مدينة الظلام، لكنها لاحقا فسرت لي وهي تتساءل:

ـ هوا إيه يا "كيان"؟ هيا البلد دي فيها هوا؟ البلد متنيلة، غرقانة في العوادم والتراب والمجاري، ده غير تلوث العقول. غباء في غباء خلى البلد كلها ضلمة.

_ ضلمة؟

ـ إنت ما سمعتش إن حكيم الزمان، سخام البرك، زعيم الندامة بتاعك بقى يضلم البلد من الساعة 10 بالليل علشان ما حدش يمشي في الشارع بالليل؟

_ أهو كلام بنسمعه. هوَّا حد فينا هنا بقى عارف إيه اللي بيحصل فوق؟"

الحياة في في غرف الغواصات، بين يوتوبيا الظلام، بالأنفاق السرية، ومدينة الظلام، تحت إمرة الجماعات المتطرفة، تبدو فرصة التقاط الأنفاس، والاستعداد البدني والتقني للتنقل بين حياتين مرهقتين، لأن هناك من يقف ضد التنوير، هنا وهناك، مثل محاولة وأد مشروع إعادة نسخ الكتب بواسطة المتكتم، وكانت مشروعا نبيلا يؤكد على يقظة المدينة ، لكن نسخ هذه الكتب، دون إتاحتها، سيظل مشروعا نخبويا، كما تقرره إحدى الشخصيات، وهذه الفكرة الأخيرة، هي لب ما تناقشه الرواية، ثقافة النخبة، التي شكلت وعي بعض أبطال رواية "معبد أنامل الحرير" ومدى فائدتها، وبالأحرى جديتها، في نفع العموم من الجمهور العادي. لكن الأبطال الآخرين، القادمين من الشمال (مثل الفتاة الألمانية يوديت ابنة مدينة شتوتجارت) والجنوب (مثل الفتاة الإثيوبية ميهريت ابنة إحدى القرى الفقيرة البعيدة عن أديس أبابا).

يجمع إبراهيم فرغلي تلابيب الحكايات لكل هؤلاء الذين يعيشون في غرف الغواصات، سواء كانت النخبة الهاربة من مدينة الظلام إلأى يوتوبيا الظلام، أو الفتاة الألمانية الهاربة بين أساطير الفراعنة إلى حقيقة العمل، أو الإثيوبية الهاربة من أتون جحيم الحروب الأقليمية والعادات التقليدية إلى الهجرة غير الشرعية التي جمعتها مع قاسم. هذه الحكايات المتشرذمة تمثل معادلا موضوعيا لتشرذم الحياة التي يخوضها العالم المعاصر بحثا عن خلاص يبدو بعيدا عن أفق النظر.

لكن الجحيم الحقيقي يبدو لي بأزمة الهوية المستلبة في ذلك المشهد الذي جمع رشيد الجوهري بصديقته الألمانية يوديت...

"انتهى الأمر في النهاية إلى أن تقول له يوديت إنها بالفعل لم تعد قادرة على مواصلة العلاقة ، وإنها تشك في أنه كان يجمِّل نفسه في صورة العلماني المتحرر، بينما هو شخص تقليدي ومحافظ ... قالت له:

ـ رشيد . أنا حقا أكاد أجزم أنني لا أعرفك؟ لست نفس الشخص الذي عرفته.

ـ كيف هل ظهرت لي قرون الشياطين.

ـ راقب نفسك؟ ألا ترى كيف أصبحت ساخطا وغاضبا طوال الوقت ، بل ومستفزا؟

ـ لم يتغير شيء. مجرد أنني أصبحت أكثر وعيا بهويتي الحقيقية.

- هويتك الحقيقية؟ ماذا تقول؟ وماذا عن المصريين القدماء؟ الذي علمتني عنهم كل شيء تقريبا منذ رأيتك لأول مرة أمام أحد آثارهم الخالدة ، وحتى اليوم؟ ألا يشكل هؤلاء هويتك الحقيقية؟

ـ لقد اهتدت مصر للدين الحقيقي منذ دخول الإسلام.

تقصد غزو العرب لمصر؟

أنا لا أقبل بهذه الإهانة."


لم تنتهِ الرواية / المخطوط. لكن النهاية تأتي في تذييل بعنوان سفينة للأشباح، يعترف كاتبه بأنه ليس رشيد الجوهري، وأنه كان مجرد واحد من رواد ذلك البحر الذي بدأت أحداث الرواية فيه، وأنه قد سمع عن سفينة تصدر منها أصوات دعا الجميع لتسميتها بسفينة ألأشباح، فاستعان بصديقين له؛ "قنديل البحر"، و"العاصفة"، للوصول إليها بعد بحث مضن، ومطاردة شاقة. وإذا كان رشيد الجوهري قد توقف في مخطوطه عند جزء استعداد النساء في مدينة الظلام لمظاهرة الأجساد المتعرية إلا من نصوص الحرية، فإننا نتابع المشهد بعد الصعود إلى سفينة ألأشباح حيث يفتح البحارة غرفة بها فتخرج مئات الفتيات العاريات! وقد عثر المغامر على المخطوط الذي يحمل عنوان "المتكتم" وبدا صوت من الأعماق يقول :انشرني؟ وقد اختفى الجميع ولم يبق سوى "قنديل البحر"، و"العاصفة"، وحتى ينجو من المصير الغامض للآخرين، قام بنشر الرواية المخطوط ، لتطبع في لبنان، وتصدر عن "منشورات ضفاف" و"منشورات الاختلاف" في 527 صفحة من القطع المتوسط، هذا العام، 2015

نشرت ضمن ملف عن إبراهيم فرغلي في موقع الكتابة 

Comments

Popular posts from this blog

جنية في قارورة .. ثاني أجزاء الثلاثية

جنية في قارورة  لإبراهيم فرغلي تضع يدها على حدود غير منظورة مع الكاتبة الصديقة ميسون صقر خلال حفل توقيع جنية في قارورة قبل عدة سنوات مقال لبنى الأمين بعيداً من الطابع السحري او الاكزوتيكي الذي يمكن ان يحيل عليه عنوان مثل "جنية في قارورة"، يلجأ المصري ابراهيم فرغلي في روايته الصادرة اخيراً لدى "دار العين" في القاهرة، الى كتابة تحاول رصد تفاعل الواقع المجتمعي المصري مع بعض ما يطرحه العالم المعاصر من اشكاليات ترغم الافراد على اعادة بلورة مفاهيمهم ومنظوماتهم الاخلاقية والنفسية والعاطفية. في زمن العولمة وانتفاء الحدود بين البلدان والمجتمعات والافراد، يضع فرغلي يده على حدود غير منظورة تتحكم بأفكار الأفراد وعاداتهم وسلوكياتهم، متسببةً بشرخ هائل وفصام قاسٍ بين ما يعلنونه من افكار تحررية وعيش يحاكي الذهنية الغربية، وما هو راسخ ومتجذر فيهم ولا يكشف عن نفسه الا في لحظات الخيارات المصيرية.هو فصام سنعيش تعقيداته مع البطلة حنين، المصرية التي نشأت في فرنسا وعاشت فيها، الا ان موت والدها وحياتها الجامحة المفتقدة كل بوصلة توجّهها صوب الاستقرار و...

إبراهيم فرغلي: رحلة لتأسيس نص مركب

ابراهيم فرغلي: رحلة لتأسيس نص مركب محرر القبس الإلكتروني  2 فبراير، 2017 أقام المكتب الثقافي المصري بدولة الكويت أمسية لتكريم الروائي المصري إبراهيم فرغلي بمناسبة حصوله على جائزة ساويرس في الرواية عن روايته «معبد أنامل الحرير»، حيث قام السفير المصري ياسر عاطف بإهدائه درع الإبداع، في إطار دعم السفارة المصرية للمبدعين المصريين وللثقافة بشكل عام. وفي الحفل، الذي حضره عدد من الكتاب والمثقفين الكويتيين والمصريين، أكد الملحق الثقافي نبيل بهجت اعتزازه بتجربة الكاتب ابراهيم فرغلي الأدبية، وتميزها على خارطة الادب العربي المعاصر، وبدوره في دعم الحراك الثقافي أيضا من خلال تعاونه في أنشطة المكتب الثقافي بشكل دائم. حياة موازية وألقى فرغلي كلمة حول الرواية الفائزة بجائزة ساويرس قال فيها: «إن رواية «معبد أنامل الحرير»، واحدة من الروايات التي أعتز بها بين النصوص التي كتبتها، ليس فقط لأنها أتاحت لي أن أعبر فنيا عن الكثير مما أؤمن به فكريا وجماليا وأدبيا، بل لأنها من النصوص التي استمتعت بكتابتها، للدرجة التي فاجأني اكتشافي يوما أنني أعمل فيها تقريبا بشكل يومي على مدى خم...

جوجل إيرث وشبحية الكتابة في رواية: "معبد انامل الحرير

جوجل إيرث وشبحية الكتابة في  معبد انامل الحرير       د. شاكر عبد الحميد ما الذي لا يستطيع جول ان يرصده؟ ترصد هذه الرواية عوالم شتى متداخلة متفاعلة في شبكات أشبه بالمتاهة الطولية والعرضية، الرأسية والأفقية، بداية من الإشارة إلى جوجل إيرث الذي يرصد كل شيء ويصوره، لكنه لا يرى ما يحدث في الأنفاق أو في الأعماق. فماذا يحدث في الأنفاق؟ وماذا يحدث في الأعماق؟ ما الذي يحدث ولا يراه جوجل إيرث؟ تحدث أشياء كثيرة تحاول هذه الرواية أن تكتشفها وترصدها وتناقشها وتطرح تساؤلاتها حولها، إنها رواية أشبه بمتاهة، ومتاهة أشبه برواية هكذا تواجهنا بداخلها بمستويات شتى بعضها يتعلق بعملية الكتابة ذاتها، بآلياتها، بالفعل الانعكاسي الخاص بها، الكتابة عندما تتأمل ذاتها، عندما تكون ذاتًا، وموضوعًا، عندما تكون مفعولاً بها وفاعلة، عندما تكون مرويةً ورواية؛ الكتابة عندما ترتبط بأفعال المراقبة والحركة والقول والصمت والفضول والتمرد، وأيضًا الرواية كما تشعر وتتأمل وتعي ذاتها عبر رؤيتها وتأملها لكاتبها واحواله وأفعاله. هكذا يتحول فعل الكتابة من دور المتلقي الس...