Skip to main content

إبراهيم فرغلي في متاهة الراوي


إبراهيم فرغلي في متاهة الراوي

رضوى الأسود


وفق المنطق الإبداعي، لا حدود للخيال، وعلى رغم ذلك يندر أن نجد في الأدب العربي رواية بطلها جماد. لكنّ هذا ما حققته الرواية الأحدث لإبراهيم فرغلي، «معبد أنامل الحرير» (منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف) والحاصلة على جائزة ساويرس للرواية، عن عام 2016. البطل هنا مخطوطة لرواية غير مكتملة. هنا المخطوطة ليست فقط البطل، لكنها الراوي أيضاً. ولا يقف طموح الروائي عند هذا فقط، بل يتعداه لتصبح المخطوطة فاعلاً بعد أن كانت مفعولاً بها، كاتبة بعد أن كانت مكتوبة، حرة بعد أن ظلت حبيسة، إما في درج من الأدراج، أو قارب، أو قمرة في سفينة في عرض البحر. فهي تؤمن بنفسها عميقاً، على رغم أنها ظلت تعاني شعوراً غامراً بالنقص بسبب عدم اكتمال أحداثها بفعل الاختفاء المُلغَّز لكاتبها: «كان المفترض أن أكون اليوم كتاباً منسوخاً في آلاف النسخ، يتكاثر قرائي، يعرفوني، وأعرفهم، ومن خلالي تصل أفكار مختلقي، رشيد الجوهري، الذي أصبح اختفاؤه لغزاً لا يبدو لي أنني سأتمكن من حل غموضه لو استمر سير الأمور على النحو الذي تسير عليه». لكن هذه الثقة في قوة ما يحمله متنها، هي ما سيجعلها فى النهاية تظهر على السطح، لتصبح رواية مكتملة ومنشورة بالفعل. إذاً، المخطوطة هنا كائن حي، يشعر، ويحكي، ويقلق، ويتوجس، يشعر بالضياع، وبالإثارة أحياناً، بل ويعلو بسقف حلمه كأي إنسان - طبقاً للتدرج الهرمي للاحتياجات لماسلو - أشبعَ غرائزه من مأكل ومشرب وجنس وأمان، الخ، حتى انتهى به الأمر الى احتياجه تحقيق الذات. هذا بُعد. لكن البُعد الآخر، إذا نحَّينا الجانب التخييلي، هو أن «رشيد الجوهري»، قد أكمل كتابتها بالفعل، وأظهرها للنور، أي أن حضور الكاتب الفعلي للمخطوطة كان مستمراً منذ البداية وحتى النهاية.
تحكي لنا المخطوطة (ككائن أنثوي طبقاً لاسمها) عن مشاهد وأحداث عدة من الحياة الشخصية لمُبدِعها، «رشيد الجوهري»، ثم في لحظات الخوف أو الارتياب، تنتقل بنا هاربة إلى داخلها، فنقرأ معها ما كتبه في متنها، ثم نعيش معها مغامراتها الشخصية وهي تنتقل من حوزة «رشيد الجوهري»، إلى صديقه «قاسم»، وأخيراً إلى شخص لا نعرف اسمه يجدها في مغامرة أقرب إلى الخيال، وهو الذي سعى الى نشرها خوفاً من لعنة قد تصيبه إن لم يفعل. إذاً، نحن نتعرض أثناء القراءة لثلاث روايات متداخلة، بحيث تصبح محاولة الفصل بين الخيال والواقع مهمة صعبة في ظل هذا التشابك. الرواية تدور فى إطار بوليسي، وإن كنا ننأى بها عن هذا التصنيف نظراً الى أن أحداثها سواء المخطوطة في حد ذاتها، والتي تدور وقائعها في مكان تاريخي تحت الأرض، أو سواء في ما يقع من أحداث تتعرض لها المخطوطة في الحكاية الأصلية، لا تندرج في شكل كامل تحت هذا الإطار.
من فكرة المخطوطة وأحداثها، ومن سرد المخطوطة ذاتها حياة كاتبها، نكتشف أن البطل «كيان»، ما هو سوى «رشيد الجوهري». المتاهة التي مرَّ بها في بيت الفنون في ألمانيا، يستعيدها الكاتب مع بطله في المخطوطة في أشكال عدة: في مدينة الأنفاق ومدينة المخطوطات والمعبد (فكرة المتاهة تكررت في رواية سابقة لفرغلي هي «كهف الفراشات»). العلاقة العاطفية التي توترت فجأة في مرحلتها المتأخرة، وبعد علاقة حب متميزة بين رشيد الجوهري وفتاته الألمانية «يوديت»، هي نفسها العلاقة بين «كيان» و «سديم». هناك ملامح عدة شكَّلت وعي الروائي وأثَّرت فيه في شكل كبير، تظهر في دوائر تكرارية بطول الرواية: رحلته إلى ألمانيا، الموجودة بقوة داخل الرواية، بمدنها وشعبها وطبيعتهم وما عانوه من ويلات الحرب العالمية الثانية. رواية «دون كيشوت» لثيربانتس، بحديث «كيان»، بطل المخطوطة، عنها في أكثر من موضع، هي حديث مثير يكرر وجهة نظر محددة في بطلها. الحضارة المصرية القديمة، ونرى ذلك في اختياره المعبد كمكان يحوي النسَّاخين واعتبار النسخ عملية مقدسة، واختياره أيضاً كعنوان أساسي للرواية، كما أن المنطقة التحتية بأكملها ما هي سوى مدينة أثرية مطموسة لم يتم اكتشافها. لاختيار الأسماء دلالاته الواضحة، فـ «كيان» سميَّ كذلك لأنه شخص ظل يبحث عن كيانه في محاولة للتعرف إليه، أي إلى نفسه، فهو أولاً متكتم في فرقة المتكتمين يصادر الكتب ويمنعها، وفجأة يكتشف حقارة ما يقوم به، متسائلاً عن هوية من وَكَّله بذلك، ومن يكون هو في نهاية الأمر حتى يعطي لنفسه تلك السلطة؟ فيرتد عكسياً حتى يصبح ضمن النخبة التي تحاول الثورة على المتكتم. و»سديم»، هي الفتاة التي أحبَّها في تلك المدينة التحتية، ومعنى الاسم: بقعة ضوء ناتجة من تجمّع لنجوم بعيدة، أو غازات مضيئة شديدة الحرارة. وبالفعل، كانت «سديم» هي النور، الشعلة الحرارية التي أيقظت روحه وجسده وجعلته يتعرف في النهاية إلى نفسه.
الأسماء في المخطوطة كلها مجازية، فإضافة إلى «سديم» و «كيان»، هناك «نيرد»، «إيد الحرير»، «نقار الزجاج»، «الكاتب الشبح»، وربما لا يشذ عن هذه القاعدة سوى ناصر ومنتصر، ولا يخفى على أحد اختيار الروائي هذين الاسمين، وهما فعل وصفة الانتصار كأنها بشرى بالنصر المحتَّم لنور المعرفة على قوى الظلام. بما أن المخطوطة تدور في أجواء المثقفين وحضرة الكتب، نجد ذكراً لكثير من الأعمال الأدبية مثل: «الأشجار» و «اغتيال مرزوق» لعبدالرحمن منيف، «الخبز الحافي» لمحمد شكري، «عاشق الليدى تشاترلي» لدي إتش لورانس، «الإنسان والمقدس» لروجيه كايوا.
هناك قواسم مشتركة بين هذه الرواية وسابقتها التي حملت عنوان «أبناء الجبلاوي»: ماهية الكاتب - بنية الرواية المركبة - الحدوتة الأصلية هي سيرة رواية - الأسماء المجازية - القالب الفانتازي الذي يلامس الواقعية السحرية - البحث الشائك في العلاقة بين الرجل والمرأة – النقد الصارخ للمجتمعات المتخلفة والتي شارَفت الانهيار. نحن أمام رواية تحريضية، تدعو إلى الثورة على السلطة الرجعية الحاكمة، لكنها وقعت في فخ الإسهاب والتكرار. أحداث المخطوطة التي تسرد وقائع نخبة مثقفة قررت أن تقف في وجه كبير الظلاميين (المتكتم) الذي يحكم مدينتهم، يحرق الكتب ويسجن الكُتَّاب، فأقاموا مدينة موازية تحت الأرض ينسخون فيها الكتب الممنوعة، وأخيراً يقررون الصعود إلى المدينة المحكومة بالخوف ليثوروا بطريقة صادمة للوعي، تجعلنا نخلُصُ إلى أن الأحداث المرتبطة بأولئك الناس الذين يحسبون أنفسهم قيِّمين على الأخلاق والثوابت، فيمنحون أنفسهم حق التفتيش في العقول والضمائر، ليست بعيدة مما نعيشه اليوم من وقائع تحكم على صاحب الرأي بالسجن، وتغض الطرف عن المجرم الحقيقي.

نشرت في النسخة الورقية لصحيفة الحياة – لندن - الأربعاء، ١٨ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٧

Comments

Popular posts from this blog

جنية في قارورة .. ثاني أجزاء الثلاثية

جنية في قارورة  لإبراهيم فرغلي تضع يدها على حدود غير منظورة مع الكاتبة الصديقة ميسون صقر خلال حفل توقيع جنية في قارورة قبل عدة سنوات مقال لبنى الأمين بعيداً من الطابع السحري او الاكزوتيكي الذي يمكن ان يحيل عليه عنوان مثل "جنية في قارورة"، يلجأ المصري ابراهيم فرغلي في روايته الصادرة اخيراً لدى "دار العين" في القاهرة، الى كتابة تحاول رصد تفاعل الواقع المجتمعي المصري مع بعض ما يطرحه العالم المعاصر من اشكاليات ترغم الافراد على اعادة بلورة مفاهيمهم ومنظوماتهم الاخلاقية والنفسية والعاطفية. في زمن العولمة وانتفاء الحدود بين البلدان والمجتمعات والافراد، يضع فرغلي يده على حدود غير منظورة تتحكم بأفكار الأفراد وعاداتهم وسلوكياتهم، متسببةً بشرخ هائل وفصام قاسٍ بين ما يعلنونه من افكار تحررية وعيش يحاكي الذهنية الغربية، وما هو راسخ ومتجذر فيهم ولا يكشف عن نفسه الا في لحظات الخيارات المصيرية.هو فصام سنعيش تعقيداته مع البطلة حنين، المصرية التي نشأت في فرنسا وعاشت فيها، الا ان موت والدها وحياتها الجامحة المفتقدة كل بوصلة توجّهها صوب الاستقرار و...

إبراهيم فرغلي: رحلة لتأسيس نص مركب

ابراهيم فرغلي: رحلة لتأسيس نص مركب محرر القبس الإلكتروني  2 فبراير، 2017 أقام المكتب الثقافي المصري بدولة الكويت أمسية لتكريم الروائي المصري إبراهيم فرغلي بمناسبة حصوله على جائزة ساويرس في الرواية عن روايته «معبد أنامل الحرير»، حيث قام السفير المصري ياسر عاطف بإهدائه درع الإبداع، في إطار دعم السفارة المصرية للمبدعين المصريين وللثقافة بشكل عام. وفي الحفل، الذي حضره عدد من الكتاب والمثقفين الكويتيين والمصريين، أكد الملحق الثقافي نبيل بهجت اعتزازه بتجربة الكاتب ابراهيم فرغلي الأدبية، وتميزها على خارطة الادب العربي المعاصر، وبدوره في دعم الحراك الثقافي أيضا من خلال تعاونه في أنشطة المكتب الثقافي بشكل دائم. حياة موازية وألقى فرغلي كلمة حول الرواية الفائزة بجائزة ساويرس قال فيها: «إن رواية «معبد أنامل الحرير»، واحدة من الروايات التي أعتز بها بين النصوص التي كتبتها، ليس فقط لأنها أتاحت لي أن أعبر فنيا عن الكثير مما أؤمن به فكريا وجماليا وأدبيا، بل لأنها من النصوص التي استمتعت بكتابتها، للدرجة التي فاجأني اكتشافي يوما أنني أعمل فيها تقريبا بشكل يومي على مدى خم...

جوجل إيرث وشبحية الكتابة في رواية: "معبد انامل الحرير

جوجل إيرث وشبحية الكتابة في  معبد انامل الحرير       د. شاكر عبد الحميد ما الذي لا يستطيع جول ان يرصده؟ ترصد هذه الرواية عوالم شتى متداخلة متفاعلة في شبكات أشبه بالمتاهة الطولية والعرضية، الرأسية والأفقية، بداية من الإشارة إلى جوجل إيرث الذي يرصد كل شيء ويصوره، لكنه لا يرى ما يحدث في الأنفاق أو في الأعماق. فماذا يحدث في الأنفاق؟ وماذا يحدث في الأعماق؟ ما الذي يحدث ولا يراه جوجل إيرث؟ تحدث أشياء كثيرة تحاول هذه الرواية أن تكتشفها وترصدها وتناقشها وتطرح تساؤلاتها حولها، إنها رواية أشبه بمتاهة، ومتاهة أشبه برواية هكذا تواجهنا بداخلها بمستويات شتى بعضها يتعلق بعملية الكتابة ذاتها، بآلياتها، بالفعل الانعكاسي الخاص بها، الكتابة عندما تتأمل ذاتها، عندما تكون ذاتًا، وموضوعًا، عندما تكون مفعولاً بها وفاعلة، عندما تكون مرويةً ورواية؛ الكتابة عندما ترتبط بأفعال المراقبة والحركة والقول والصمت والفضول والتمرد، وأيضًا الرواية كما تشعر وتتأمل وتعي ذاتها عبر رؤيتها وتأملها لكاتبها واحواله وأفعاله. هكذا يتحول فعل الكتابة من دور المتلقي الس...