Skip to main content

ابراهيم الفرغلي يختبر فن الرواية


ابراهيم الفرغلي يختبر فن الرواية

نبيل سليمان




لعبة روائية بسيطة ومعقدة في آنٍ واحد. بل هو بناء روائي بسيط ومركّب بلغ قائمة البوكر الطويلة، ورمحت فيه مخيلة ابراهيم الفرغلي، التي دأبت على أن ترمح في روايات سابقة، وها هي في «معبد أنامل الحرير» تشيد مدناً – مجتمعاً – دولة، وأول ذلك «مدينة الظلام» حيث عمل الكاتب رشيد الجوهري في مؤسسة الرقابة، وفي سدّة البلاد يتربع «المتكتّم».
على مدينة الظلام فرض المتكتم العتمة، ليسيطر على أي تمرد محتمل، وهو المحمي بترسانة من القوانين والتقاليد. وقد أطلق رجاله الملتحين بجلابيبهم البيضاء ليحطموا التماثيل، فتصدت لهم مجموعة من الشعراء والعشاق والنساخ، في صياغة روائية لما فعل «داعش» وأخواته، في سوريا والعراق ومصر.
قبل أن نتابع في مدن الرواية، ربما يحسن أن نتبين كيف أسندت اللعبة – البناء إلى الرواية أن تحكي حكاية كتابة رشيد الجوهري لها، وحكاية خطفه وخطفها ومن تداولوا على قراءتها، مقدمة عبر ذلك وعيها للذات وللآخر/ العالم.
تحدثك الرواية عن أنها راقبت تشكلها ونموها حتى صارت قادرة على أن تولد أفكاراً لم تخطر للكاتب، وأخذت تولد بينهما علاقة جديدة. وسنقرأ مراراً أنها تهرب إلى ذاتها، أو تقرأ نفسها، لنراها تشك دوماً في اكتمالها، وأحياناً ترى نفسها رصينةً، تنتسب إلى آباء الرواية العظماء، كرواية في جوهرها فكرة عميقة عابرة للأجيال والثقافات والزمن، وأحياناً ليست غير رواية جريمة، وتجارية رخيصة. وسيلي أن الرواية ترى نفسها حاوية معرفة، ولكن عليها أن تتخذ لهذه المعرفة أسلوباً وشكلاً فنياً، وهي أيضاً لا ترى نفسها سوى رواية مغمورة اختلقت في عرض البحر، عقب محاولة فاشلة لكتابة سيرة ذاتية.
والرواية التي ترى نفسها سليلة لتراث السرد والحكي، تقول باسم الروايات: إننا نمثل معاً جزءاً من صوت البشرية وروح الكون، نمتثل في البداية لعقول - وأيدي - مبدعينا، ثم نقود نحن المسيرة.
أما رشيد الجوهري الذي عاد يائساً إلى القاهرة، بعد رحلة إلى ألمانيا، فتجاوز أزمته الروحية، ثم سافر إلى إيطاليا، فاختطف في البحر، وهو رحالة مثقف متعدد اللغات والعلاقات، وذو ذائقة فنية مميزة. وهذا الذي عمل كمرشد سياحي في الأقصر، مسكون بالحضارة المصرية القديمة، ولذلك تحاول الرواية استعراض التاريخ الفرعوني. وقد التقى رشيد بيوديت الألمانية في وادي الملوك، فتعلّق كل بالآخر، وتجدد اللقاء في شتوتغارت. ولن يفتأ رشيد يقارن بين يوديت وعشقه الكاسح الأول، سلمى. وكما ستكون العلاقة مع يوديت كاشفة لوعي الذات ووعي الآخر/ العالم، ستكون كذلك علاقة رشيد مع الفرنسية بيرجيت، التي تتعلم الرقص الشرقي لأنه لون من إظهار الجمال الباطني للروح عبر حركات الجسد، ولأنه مدخل إلى الشرق. أما يوديت فترى رشيد رومانسياً يحمل رغبةً دفينة في تعذيب الذات. وقد بترت هي علاقتهما عندما جرفت الأسلمة رشيد. وهذه التي أقامت علاقات سابقة مع ألمان وأوروبيين أرادت تجريب المصريين، لعلها تجد علاجاً لروحها في الشرق. وللشفاء من يوديت جاءت علاقة رشيد مع الفنانة التشكيلية آهران الأميركية من أبوين كوريين. وقد ملت آهران زيف الأميركي لذلك اختارت ألمانيا: مجلى آخر لوعي الذات والعالم.
بالعودة إلى مدينة الظلام التي ستصير مدينة الصمت، ترسم الرواية من عهد المتكتم تدريب المتكتمين الصغار للاعتداء على المعارضة، ومنع الفنون، وإغلاق دور النشر إلا للكتب التي تروّج للمتكتم وللخرافة، وحرق الكتب في الميادين... كما ترسم تمرد مجموعات تابعة للمعتقلين في المنافي الصحراوية، والبؤر السرية التي انتشرت في البيوت، وتمارس قراءة الروايات والشعر والكتب الفكرية، ومشاهدة الأفلام، والمناقشات...
من مدن الرواية أيضاً مدينة الأنفاق، التي يتجمع فيها الناسخون وعلى رأسهم كبيرهم (الكاتب الشبح). وقد خصصت الأنفاق العلوية من هذه المدينة للشعراء والفنانين والآخرين الهاربين الذين ليسوا من كتيبة النساخين. وفي هذه المدينة التي نسخ فيها رشيد كتاب فرح أنطون (ابن رشد وفلسفته) يلتقي بالشاعرة سديم التي يشك في أن يكون المتكتم قد دسّها عليه، ولكن سيتبين أنها ممن هاجمن المتكتم وأتباعه بالوسائل الافتراضية (التدوين). وفي مدينة الأنفاق عربة مترو الشعراء، وقاعة (مغارة) الشعر الإروتيكي، وكهف الشيطان الموقوف على المناقشات الحرة في الفلسفة والدين، وكذلك: المكتبة التي تشبه جزيرة معرفة طافية، وهي بلا تصنيف، وتصورها الرواية كوطن، وقرية كونية، ومدينة عالمية، وطيف، تأسيساً على كتاب ألبرتو مانغويل «المكتبة في الليل». ولئن بدت المكتبة متاهة فهي واحدة من متاهات الرواية: متاهة بيت الفنون، متاهة يوديت الممتلئة بتعاسة البطالة واكتشاف كذبة الديموقراطية..
بعد النهاية تستطيل الرواية في فصل آخر/ ملحق (سفينة الأشباح) بما لو حذف منها لما ضرّها. لكنها تبقى استطالة ماتعة، تروي ما بعد النهاية، تروي عن سفينة ليلية لا تظهر نهاراً، ولا تبرح بقعةً بعينها من البحر، مهجورة وتصدر عنها أصوات مجنونة، كلما اقترب منها أحد، لكأنها واحدة من جزر الشيطان. ولاكتشاف الحقيقة يطارد السفينة ثلاثة تسميهم الرواية: قنديل البحر، الأخطبوط، والعاصفة، كمن يتبع سراباً، لكنهم سيتمكنون أخيراً من السفينة، ويفتحون غرفة، فإذا بمئات الفتيات العاريات/ المخطوطات، وبكتاب عنوانه (المتكتم) وصوت ينادي: «انشرني». ومن الطريف هنا أن روايةً ليوسّا عنوانها «البطل المتكتم» قد ظهرت للتوّ في ترجمة صالح علماني.
تتلفع الرواية بالبوليسية عبر اختطاف رشيد واختفائه، أو عبر ما حدث على السفينة من اختطاف قاسم وضربه وحجزه مع الإثيوبية مهيريت، وعبر ذلك كانت حصة قاسم من قراءة الرواية ومن سرد سيرته وعلاقته برشيد. وبوقوع السفينة بين أيدي القراصنة حتى أنقذتها العاصفة، تتلفع الرواية بالمغامرة، لكنها ستقع هنا تحت وطأة التأرخة، كما الأمر في ما يخص دريسدن. كما تقع الرواية تحت وطأة صفحات المتناصّات الطويلة من أعمال شتّى.
تبدو «معبد أنامل الحرير» تجسيداً بامتياز لأطروحة ناتالي ساروت (الرواية بحث)، والكاتب يثبت مصادره من أفلام وثائقية وتسجيلية ودرامية ومن كتب. وقد أفسحت هذه الرواية لمعركة رواية إبراهيم الفرغلي «أولاد الجبلاوي» مع الرقابة. وكما كانت تلك الرواية إبداعاً مميزاً للكاتب، جاءت رواية «معبد أنامل الحرير» أكثر تميزاً، سواء بلعبة الرواية في الرواية، أم بالتخييل الرامح، أم ببناء الشخصيات، أم بالحمولة الفكرية، خصوصاً ما يتصل بوعي الذات والعالم، وبنداء الحرية ومواجهة الظلامية.


جريدة الحياة-  الخميس، ١٤ أبريل/ نيسان ٢٠١٦

Comments

Popular posts from this blog

معبد أنامل الحرير: إخفاء المؤلف.. قناع الموت

معبد أنامل الحرير: إخفاء المؤلف.. قناع الموت لا يتحدد المنجز السردي لرواية "معبد أنامل الحرير"، الصادرة عن منشورات ضفاف والاختلاف، في إطار الألعاب الكتابية التي شيدها إبراهيم فرغلي، بقدر ما يقوم هذا المنجز علي الفرص الغنية التي قدمتها هذه الألعاب للقاريء كي يمتلك حرية غير مروّضة في تأويل الرواية، والتي يمكن أن تتمادي إلي درجة الطيش اللازم لهدم أي منطق مفترض لها. نحن أمام مخطوطة لرواية بعنوان "المتكتم" تحكي (حياة) كاتبها المختفي رشيد الجوهري بالتزامن مع قراءة صديقه (قاسم) لصفحاتها.. كيف تتحدث المخطوطة؟ رشيد الجوهري يتكلم بواسطة مخطوطته (وهو ما يُفسر حيازتها للأبعاد والصفات الإنسانية) التي تتجاوز حدودها الخطية لتسرد (الحياة الكاملة) كأنها تحقق مقولة جاك دريدا: (لا شيء خارج النص)، أي أن الوجود هو نص، ولا شيء خارج الوجود؛ لذا فالمخطوطة ليست مجرد انعكاس جمالي، جزئي لحياة كاتبها، وإنما تحتوي  ضمنياً ـ تفاصيل ذاكرته كلها، وهي الطريقة الوحيدة التي ينبغي التعرّف علي سيرة الكاتب من خلالها، حتي تلك المشاهد والأزمنة الشخصية التي يبدو أن الكتابة لم تتضمنها .. رواية

إبراهيم فرغلي ضيفا على قناة النيل للحديث عن معبد أنامل الحرير

إبراهيم فرغلي في متاهة الراوي

إبراهيم فرغلي في متاهة الراوي رضوى الأسود وفق المنطق الإبداعي، لا حدود للخيال، وعلى رغم ذلك يندر أن نجد في الأدب العربي رواية بطلها جماد. لكنّ هذا ما حققته الرواية الأحدث لإبراهيم فرغلي، «معبد أنامل الحرير» (منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف) والحاصلة على جائزة ساويرس للرواية، عن عام 2016. البطل هنا مخطوطة لرواية غير مكتملة. هنا المخطوطة ليست فقط البطل، لكنها الراوي أيضاً. ولا يقف طموح الروائي عند هذا فقط، بل يتعداه لتصبح المخطوطة فاعلاً بعد أن كانت مفعولاً بها، كاتبة بعد أن كانت مكتوبة، حرة بعد أن ظلت حبيسة، إما في درج من الأدراج، أو قارب، أو قمرة في سفينة في عرض البحر. فهي تؤمن بنفسها عميقاً، على رغم أنها ظلت تعاني شعوراً غامراً بالنقص بسبب عدم اكتمال أحداثها بفعل الاختفاء المُلغَّز لكاتبها: «كان المفترض أن أكون اليوم كتاباً منسوخاً في آلاف النسخ، يتكاثر قرائي، يعرفوني، وأعرفهم، ومن خلالي تصل أفكار مختلقي، رشيد الجوهري، الذي أصبح اختفاؤه لغزاً لا يبدو لي أنني سأتمكن من حل غموضه لو استمر سير الأمور على النحو الذي تسير عليه». لكن هذه الثقة في قوة ما يحمله متنها، هي ما سي