معبد
أنامل الحرير.. الرواية في مواجهة الظلام
إبراهيم
عادل
26
فبراير 2016
لعلها
مفارقة عجيبة أن أشرع في قراءة هذه الرواية والتعرف على فكرتها التي تدور بشكلٍ
عام حول مواجهة فكرة "الرقيب" في الأعمال الإبداعية، في الوقت الذي يقضي
فيه أحد الأدباء حكمًا بالحبس لمدة عامين لمجرد أنه نشر فصلاً من روايته لم يكن
على هوى أحد القرّاء!!
(معبد
أنامل الحرير) رواية إبراهيم فرغلي الصادرة عن "منشورات ضفاف" والمرشحة
للقائمة الطويلة لبوكر هذا العام 2016، رواية لا تسلّم نفسها إليك بشكلٍ عادي، فهي
كتابة سردية مختلفة ومتقنة تقوم على قلب حالة السرد الروائي المعتاد منذ البداية،
إذ نجد أنفسنا لسنا بصدد حكاية عادية تروى، وإنما بصدد تغيير في طريقة السرد من
أساسها حيث "رواية" تحكي عن صاحبها "رشيد الجوهري" الذي
اختفى، من جهة وتستنطق ما كتبه فيها من جهة أخرى، وكأنها رواية داخل رواية، تدور
أحداث وعوالم وشخصيات في المستوى الأولى، وتتقاطع معها أحداث أخرى مختلفة وشخصيات
أخرى في مستوى ثانٍ، ويبقى القارئ بين المستويين مشدود النفس مستمتعًا بذلك
الانتقال وبراعة الكاتب في رسم العالمين بتفاصيلهما الثرية.
والجميل
أن أحد هذين المستويين يبدو شديد الصلة "بحالة" المستوى الأول من جهة،
ومما يمكن أن نعتبره "دور" الكتابة والرواية في العالم والموقف منها من
جهةٍ أخرى، إذ يكشف "رشيد الجوهري"ـ فيما تحكيه عنه روايته ـ عن عالمٍ
متخيٍّل فرضت فيه سطوة وسيطرة "المتكتِم" الذي هو بمثابة
"الرقيب" على الأعمال الإبداعية سواء كانت روايات أو أفلام أو حتى كلام
الناس، لينتقل الناس إلى "مدينة الظلام" تلك التي يهربون فيها ومن
خلالها بأعمالهم بعيدًا عن سيطرة ونفوذ "المتكتم" ورجاله!
(في
الطريق إلى المدينة الجديدة، وبينما كنت أظن أنني أهرب مع طارق من الصوت المدمّر،
كان يحكي لي بعضًا من تطورات ما وصلت إليه الأمور في "مدينة الظلام" حكى
لي عن الصمت، قال لي إن الصمت أصبح سمةً عامّة للبشر، أو لظلال البشر، ممن يعيشون
في المدينة العلوية، انتهى عهد الكلام، وأصبحت الكلمة محسوبة على كل شخصٍ
وبالتالي، على سبيل التقية، فإن كثيرًا من سكان "مدينة الظلام" يؤثرون
الصمت حتى لا يتعرضون للخطر!
أضاف موضحًا أن أتباع "المتكتّم" لم
يعد لهم عمل بعد أن أحرقوا الكتب وأغلقوا دور السينما والمسارح وكافّة الأنشطة
الثقافية، وأصبح الأمر مقصورًا على بعض التظاهرات المؤيدة للمتكتم من أنصاره
المنافقين ومؤيديه المنتفعين، ولذلك لم يعد أمامهم سوى أن يحصوا أنفاس الناس وأن
يتنصتوا على ما يقولون!)
ولعل
أحد نقاط البراعة والاختلاف في الرواية تمثّل في جعل "الرواية" تتحدث عن
نفسها ودرايتها بذاتها، واستدعاء كينونتها من خلال قراءتها:
(استدعيت
ذلك المقطع من الرواية الآن، أو بالأحرى من ذاتي ربما لأنه أكثر ما يمكن أن يعبّر
عن حالتي هنا في التو واللحظة، حالة من الضياع التام والإحساس بأن مستقبلي أصبح
غامضًا.. أظنني لا أمل من استدعاء رحلته لألمانيا وحياته فيها، لأنها المكان الذي
بدأت فيه فكرة تخلقي، وربما مكان ميلادي!)
لا
تكتفي الرواية بسرد حكايتها الخاصة، بل تتحوّل في حالاتٍ كثير إلى حالة
"السارد العليم" الذي يحيط بشخصية كاتبها (الذي يتحوّل من كاتب إلى بطلٍ
تحكي عنه) ويعرفنا بأدق تفاصيل حياته، وهي إن كانت تقطع حكايتها عبر زمنين: الزمن
الحالي (فنراقب من خلالها كل من اقترب منها أثناء غياب صاحبها، والأيدي التي
تناقلتها وعبثت بصفحاتها) والزمن الماضي (الذي تنقلنا فيه إلى حكاية صاحبها قبيل
وأثناء كتابتها) فإننا نلحظ أنها في ذلك الزمن الماضي أكثر دراية وتحررًا وإحاطة
بالكاتب، من زمنها الحالي الذي اقتصرت فيه الحكاية على معلومات يمكن وصفها
"بالمشاهدة"، وهي في ظني نقطة احترافية أخرى تحسب للروائي "إبراهيم
فرغلي" في تمثله لحالة روايته التي تحكي عن نفسها هنا!
(ما
فاجأني حقًا .. اكتشافي أنني أمتلك من جنس البشر بعض الخصال، وبينها الإحساس
بالارتباك الشديد عندما تباغتني الأحداث.. تعلمت ذلك من خلال خبرتي حين كنت أتشكّل
كفكرة تتطوّر يوميًا في ذهن رشيد الجوهري ...
قد
تقولون عني إنني أكذب، فمن أين لي أن أرى وأنا مجرد رواية ملتبسة الهويّة، بين
دفتر مكوّن من بضعة أوراق وفكرة مكتوبة في أحشائي، لكن قولوا ما شئتم فربما أكون
بمنطقكم عمياء، لكني في الحقيقة بصيرة حدسي ومعرفتي يمثلان جزءًا من حواسي التي
أترجمها وفق ما يمكن أن تفهموه! )
....
من
جهةِ أخرى تتحدث الرواية عن كاتبها (حين عاد لكتابتي لم أصدق أن علاقته مع يوديت
يمكن أن تعود، لقد كان جرحهما كبيرًا، وصفته بمتخلف شرقي، ووصفها بالعنصرية، وأبدت
ندمها على النوم معه، آآهه هنا تذكرت أنه ربما لذلك اختار معادلاً للفكرة في
العلاقة بين "سديم" و"كيان" في متني)
هكذا
تكشف "الرواية" عن حيل المؤلف، الذي يبدو في هذا النص قد
"مات" بالفعل، فالرواية من بدايتها حتى انتهت لم تعثر عليه، بل ويبدو
أنها تحوّلت إلى "لعنة" تصيب كل من يحصل عليها! ولكنها تقوم هنا بدور
"الناقد" الذي يحلل ويفسر ظهور شخصيات في النص، وتحولها إلى "معادل
موضوعي" لشخصياتٍ حقيقية تعرّف عليها الكاتب في واقعه!
يغوص القارئ في التعرف على حكاية
"رشيد" وتقلباته، وبين عالم "المتكتم" السري المتخيّل الذي
تحكيه الرواية ثم تفاصيل حكاية ضياع الرواية من كاتبها وعلاقتها بمنقذها، حتى إنه
ليفاجئ بغياب المعبد الذي جاء اسمًا للرواية حتى ثلثها الأخير تقريبًا، والذي تكشف
لنا فيه الرواية عن "أنامل الحرير" وذلك "المعبد"/ المكتبة ..
ذلك الصرح الذي أنشأه الناسخين لكي ينقذوا ما تم إتلافه:
المكتبة بما تحويه من المعرفة بدت صرخة حق،
توجّه كلماتها ساطعةً إلى الرقيب المتكتم قائلةً: إن كل كتابٍ تعرّض للطمس والنفي
والحرق موجودُ هنا ليشير إلى كذبك أيها المتكتم المدعي، معلنّا وجوده من جهة
ومشيرًا إلى الجرائم البشعة التي تمارسها أيها المتكتم بدمٍ بارد، المكتبة هنا
تعلن للعالم أن الرقيب هو المجرم الحقيقي لا المعرفة ولا الحياة بكل ما فيها!
تبدو
الرواية ـ بشكلٍ عام ـ مشغولة بأسئلة الهوية وطريقة اكتشاف الذات، من خلال
رحلة/رحلات مع شخصياتها وأحداثها، يغيب فيها بطلها الرئيس لتبرز شخصيات أخرى نتعرف
عليها تدريجيًا وذلك من خلال ثلاث مستويات
سردية حرِص الكاتب أن يجعل في كل مستوى منهم ثمّة علاقة ملتبسة بأنثى، فوجدنا في
متن الرواية "المحكية" علاقة بين "كيان" و"سديم"،
وفي حكاية الرواية علاقة جمعت بين "رشيد" وأكثر من شخصية نسائية كانت
أبرزهم وأكثرهم ثراءً علاقته "بيوديت"، وفي الواقع الذي تعيشه الرواية
وتدور حوله الآن تنشأ علاقة بين "منقذها" "قاسم" وفتاة
إثيوبية هي "ميهيريت"، ندخل عوالم هذه الشخصيات الثلاثة على اختلافها،
وينجح الكاتب في أن يعرض لنا جوانبًا من تلك الشخصيات وكيفية تعامل كل واحدةٍ منهن
مع ذلك الآخر/الرجل في فترات متباعدة..
ثمّة
حكايات طريفة يزخر بها النص/الرواية، مثل حكاية "الضحك" المأخوذة عن
مراجعة "رشيد" لنسخة من (دون كيشوت)، أو حكاية القرصان (ص 134) التي
تأتي على لسان الرواية نفسها وهي تتندر بما آل إليه حالها بين "قراصنة"
هذه الأيام! أو تلك التفاصيل الجانبية لحكاية القبائل الإثيوبية ومعاناتهم في
شخصية الفتاة "ميهريت" التي يستغرق الكاتب في تفاصيلها وكأنها بطلة من
أبطال الرواية.
تنتصر
الرواية ـ بلا شك ـ في النهاية للإعلاء من قيمة الإبداع، وتسخر بشكلٍ فني وجمالي
متقن من كل محاولات "الرقيب" الظلامية المتخلفة على اختلاف طرقها وتنوع
أساليبها، موضحةٍ أن البقاء للنور والإبداع والحرية مهما حاربها دعاة الظلام ومدعي
الفضيلة والأخلاق!
وهكذا تمثل (معبد أنامل الحرير) نصًا روائيًا
مختلفًا وفارقًا يحوي مستويات سردية مختلفة ويخوض في عوالم متخيّلة شديدة الثراء
والجاذبية، بما يجعلها بحقٍ رواية متفردة، ويجعل المرء يتوقف طويلاً متعجبًا
لخروجها من القائمة القصيرة لجائزة "بوكر"هذا العام، إذ أراها الأكثر
استحقاقًا من روايات أخرى هناك! ولكن يبدو أنها عادة "جائزة بوكر" معي
كل عام، إذ تبقى اختياراتها في "القائمة الطويلة" أكثر أهمية وثراءً من
كل ما يأتي بعد ذلك!!
Comments
Post a Comment